فصل: من لطائف القشيري في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

بعد استفراغ الحِوار مع أهل الكتاب، ثُمّ خطاب أهل الكفر بما هو صالح لأن يكون شاملًا لأهل الكتاب، وجّه الخطاب إلى النّاس جميعًا: ليكون تذييلًا وتأكيدًا لما سبقه، إذ قد تهيَّأ من القوارع السالفة ما قامت به الحجَّة، واتّسعت المحَجَّة، فكان المقام للأمر باتّباع الرسول والإيمان.
وكذلك شأن الخطيب إذا تهيّأت الأسماع، ولانت الطباع.
ويسمَّى هذا بالمقصد من الخطاب، وما يتقدّمه بالمقدّمة.
على أنّ الخطاب بيأيُّها النّاس يعني خصوص المشركين في الغالب، وهو المناسب لقوله: {فآمنوا خيرًا لكم}.
والتعريف في {الرسول} للعهد، وهو المعهود بين ظهرانيهم.
(والحقّ) هو الشريعة والقرآن، و{من ربّكم} متعلّق بـ {جاءكم}، أو صفة للحقّ، و(من) للابتداء المجازي فيهما، وتعدية جاء إلى ضمير المخاطبين ترغيب لهم في الإيمان لأنّ الذي يجيء مهتمًّا بناس يكون حقًّا عليهم أن يتّبعوه، وأيضًا في طريق الإضافة من قوله: {ربّكم} ترغيب ثان لما تدلّ عليه من اختصاصهم بهذا الدّين الذي هو آت من ربّهم، فلذلك أتي بالأمر بالإيمان مفرّعًا على هاته الجمل بقوله: {فآمنوا خيرًا لكم}.
وانتصب {خيرًا} على تعلّقه بمحذوف لازم الحذف في كلامهم لكثرة الاستعمال، فجَرى مجرى الأمثال، وذلك فيما دلّ على الأمر والنهي من الكلام نحو {انْتهوا خيرًا لكم} [النساء: 171]، ووراءك أوسعَ لك، أي تأخّر، وحسبك خيرًا لك، وقول عمر بن أبي ربيعة:
فواعديه سَرْحَتَيْ مالِك ** أو الرّبى بينهما أسْهَلا

فنصبه ممّا لم يُخْتَلف فيه عن العرب، واتّفق عليه أئمّة النحو، وإنَّما اختلفوا في المحذوف: فجعله الخليل وسيبويه فعلا أمرًا مدلولًا عليه من سياق الكلام، تقديره: ايت أو اقصد، قالا: لأنّك لمّا قلت له: انته، أو افعل، أو حسبُك، فأنتَ تحمله على شيء آخر أفضل له.
وقال الفرّاء من الكوفيّين: هو في مثله صفة مصدر محذوف، وهو لا يتأتّى فيما كان منتصبًا بعد نهي، ولا فيما كان منتصبًا بعد غير متصرّف، نحو: وراءَك وحسبُك.
وقال الكسائي والكوفيّون: نصب بكان محذوفة مع خبَرها، والتقدير: يكن خيرًا.
وعندي: أنّه منصوب على الحال من المصدر الذي تضمّنه الفعل، وحْدَه، أو مع حرف النهي، والتقدير: فآمنوا حال كون الإيمان خيرًا، وحسبك حال كون الاكتفاء خيرًا، ولا تفعل كذا حال كون الانتهاء خيرًا.
وعود الحال إلى مصدر الفعل في مثله كعود الضمير إليه في قوله: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8]، لاسيما وقد جرى هذا مجرى الأمثال، وشأن الأمثال قّوة الإيجاز.
وقد قال بذلك بعض الكوفيين وأبو البقاء.
وقوله: {وإن تكفروا} أريد به أن تبقوا على كفركم.
وقوله: {فإنّ لله ما في السموات الأرض} هو دليل على جواب الشرط، والجواب محذوف لأنّ التقدير: إن تكفروا فإنّ الله غنيّ عن إيمانكم لأنّ لله ما في السموات وما في الأرض، وصرّح بما حذف هُنا في سورة الزمر (7) في قوله تعالى: {إن تكفروا فإنّ الله غنيّ عنكم} وفيه تعريض بالمخاطبين، أي أنّ كفركم لا يفلتكم من عقابه، لأنَّكم عبيده، لأنّ له ما في السماوات وما في الأرض. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)}
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ}: أخبر أنه سبحانه غني عنهم، فإنْ آمنوا فحظوظ أنفسهم اكتسبوها وإن كفروا فَبَلاَيَاهُم لأنفسهم اجتلبوها. والحقُّ تعالى مُنَزَّه الوصف عن (الجهل) لوفاق أحدٍ، والنقص لخلاف أحد.
قوله: {وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ للهِ مَا في السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} يعني إن خرجوا عن استعمال العبودية- فعلًا، لم يخرجوا عن حقيقة كونهم عبيده- خلْقًا، قال تعالى: {إِن كُلُّ مَن في السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ أَتِى الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93]. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ}
فبعد أن وصف لنا- بإيجاز محكم- سلسلة المعارك التي نشأت بين الرسول واليهود مرة، ومرة أخرى بينه وبين المشركين، وها هوذا سبحانه يخاطب الناس جميعًا، ليصفي مركز منهج الله في الأرض، فيقول منبهًا كل الناس: لقد جاءت رسالة محمد عليه الصلاة والسلام تصفية لكل الرسالات التي سبقت، وعلى الناس جميعًا أن يميزوا، ليختاروا الحياة الإيمانية الجديدة؛ لأن الرسول قد جاء بالنور والبرهان، الذي يرجح ما هو عليه صلى الله عليه وسلم على ما هم عليه، والنور الذي يهديهم سواء السبيل.
لقد كان الناس قبل رسول الله على مِلَلٍ وعلى أديان ونحل شتى، فجاء البرهان بأن الإسلام قد جاء ناسخًا وخاتمًا. والبرهان هو تعاليم هذا الدين وأدلته، فلا حجة لأحد أن يتمسك بشيء مما كان عليه. وجاء محمد بالنور الذي يهدي الإنسان إلى سواء السبيل، وهذه تصفية عقدية شاملة، أو كما نقول بالعامية أوكازيون إيماني تتخلص به البشرية من كل ما يشوب عقائدها، ولتبدأ مرحلة جديدة.
{يا أيها الناس قَدْ جَاءَكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبِّكُمْ} والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير مهما تغيرت عليه الظروف؛ لأن الحق صدق له لون واحد، فإذا ما رأيتم جميعًا حادثة واحدة، ثم جاء كل واحد منكم فأخبر بها إخبار صدق فلن تختلف رواية الحادثة من واحد لآخر. أما إن سولت نفس بعض الناس لهم أن يتزيدوا في الحادثة فكل واحد سيحكي الحادثة على لون مختلف عن بقية الألوان، وقد يسافر خيال أحدهم في شطحة الكذب ويسترسل فيه.
إذن فالذي لا يتغير في الحق هو أن يحكوا جميعًا الرواية الواحدة بصدق ولو كانوا ملايين الناس، لكن إن سولت نفوس بعضهم الكذب وحسنته له وأغرته به لاختلفت الرواية؛ لأن الكذب مشاع أوهام ولا حقيقة له. والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا: لقد جاءكم الرسول بالحق مهما تغيرت الظروف والأحوال، ومهما جئتم إليه من أي لون، سواء في العقديات أو في العباديات أو في الأخلاق أو في السلوك. وستجدون كل شيء ثابتًا لأنّه الحق.
ويضرب الحق سبحانه وتعالى لنا مثلًا في هذا الحق: {أَنَزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل} [الرعد: 17]
كل وادٍ يأخذ ماء على قدر حجمه، وساعة ينزل السيل من الجبال يحمل معه التراب والقش والأشياء التي لا لزوم لها، وهو ما نسميه الريم وهو الزَّبَد الرابي. وكذلك الحديد أو النحاس أو الذهب الذي نصنع منه الحلي أو أدوات المتاع، وعندما نضع هذه المعادن في النار، نجد الزِّبَد يفور على سطح هذه المعادن عندما تنصهر، وتسمى هذه الأشياء الخبث.
ويوضح الحق لنا كيف يضرب الحق والباطل. {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض} [الرعد: 17]
ومهما اختلطت بالحق أشياء فهو كحق يبعد ويطرد هذه الفقاقيع والخبث وينحيها عنه. فإن علا الباطل يومًا على الحق فلنعلم أنه علو الزَّبَد الذي يذهب جفاء مرميا به ومطروحا، وسيظل الحق هو الحق. وسبحانه يقول: {يا أيها الناس قَدْ جَاءَكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْرًا لَّكُمْ}. والإيمان هو اعتناق العقيدة بوجود الإله الأعلى، والبلاغ عنه بواسطة الرسل، وأن للحق ملائكة، وأن هناك بعثًا بعد الموت، وحسابًا. ويقتضي الإيمان أن نعمل العمل وَفق مقتضياته وذلك هو اختيار الخير، ولنعلم جيدًا أن الإيمان لا ينفصل عن العمل.
وماذا يحدث لو لم يؤمن الناس؟ ها هوذا الحق يقول: {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا} وسبحانه غني، وسيظل كَونُه الثابتُ- بنظرية القهر والتسخير- هو كونه، ولن يتغير شيء في الكون بكفر الكافرين، سوى سخط الكون عليهم لأنه مسخر لهم؛ لأن الكون ملك لله، ولن تتغير السماء ولا النجوم ولا القمر ولا المطر ولا أي شيء.
ونقول لك: لو نظرت إلى الدنيا لوجدت الفساد فيها ناشئًا مما فعلته وأحدثته يد الإنسان على غير منهج الله، أما الشيء الذي لم تدخل فيه يد الإنسان فهو لا يفسد، ولم نر يومًا الشمس وقد عصيت عن الشروق أو الغروب، وكذلك القمر لم تختل حركته، وكذلك النجوم في الأفلاك، وتسير الرياح بأمر خالقها، وكل شيء في الكون منتظم الحركة، اللهم إلا الأشياء التي يتدخل فيها الإنسان، فإذا كان قد دخلها بمواصفات منهج الله فهي منسجمة مع نفسها ومع الكون، وإن دخلها بغير مواصفات منهج الله فلن تستقيم، بل تفسد.
ولذلك قال الحق: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]
إن الأمر الفاسد إنما يأتي من داخل نفوس البشر عندما يضلون عن منهج الله، ولذلك نقول: أشَكى الناس أزمة ضوء؟. لا؛ لأن الشمس ليست في متناولنا، وكذلك لم يشك الناس أزمة هواء، لكنهم يشكون أزمة طعام؛ لأن الطعام ينبت من الأرض، فإما أن يكسل الإنسان مثلًا فلا يعمل، وإما أن يعمل ويخرج ثمرًا فيأخذه بعضهم ويضنوا ويبخلوا ولا يعطوه لغيرهم، وهذا سبب من أسباب الفساد الناشئ في الكون.
وجاء الحق لهم بما يمكن أن يكون فتحًا يدخلون فيه بالإيمان بمنهج الرسول الخاتم، ويكفرون عن أخطائهم مع أنبيائهم ومع محمد صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله سبحانه: {بالحق}: فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلِّق بمحذوفٍ، والباءُ للحال، أي: جاءكُمُ الرسولُ ملتبسًا بالحقِّ، أو متكلِّمًا به.
والثاني: أنه متعلقٌ بنفس جَاءَكُمْ، أي: جاءكم بسبب إقامةِ الحقِّ، والمراد بهذا الحق القرآنُ، وقيل: الدعوة إلى عبادة الله، والإعراض عن غيره، ومِنْ ربِّكُمْ فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلقٌ بمحذوف؛ على أنه حال أيضًا من الحَقِّ.
والثاني: أنه متعلقٌ بجاء، أي: جاء من عند الله، أي: أنه مبعوثٌ لا متقوَّلٌ.
قوله تعالى: {فَآمِنُواْ خَيْرًا لَّكُمْ} في نصبه أربعة أوجه:
أحدها- وهو مذهب الخليل وسيبويه-: أنه منصوب بفعلٍ محذوفٍ واجب الإضمار، تقديره: وأتُوا خيرًا لكم؛ لأنه لمَّا أمرهم بالإيمان فهو يريدُ إخراجهم من أمرٍ، وإدخالهم فيما هو خيرٌ منه، ولم يذكر الزمخشريُّ غيره؛ قال: وذلك أنه لمَّا بعثَهم على الإيمان وعلى الانتهاءِ عن التثْلِيثِ، علم أنه يَحْمِلُهم على أمر، فقال: خيرًا لكُمْ، أي: اقصِدوا وأتُوا أمرًا خيرًا لكم مما أنتم فيه من الكُفْر والتثليث.
الثاني- وهو مذهب الفراء-: أنه نعت لمصْدر محذوف، أي: فآمنوا إيمانًا خيرًا لكم، وفيه نظر؛ من حيث أنه يُفْهِمُ أنَّ الإيمان منقسم إلى خير وغيره، وإلاَّ لم يكنْ لتقييده بالصفةِ فائدةٌ، وقد يُقالُ: إنه قد يكون لا يقولُ بمفهوم الصفة؛ وأيضًا: فإن الصفة قد تأتي للتأكيد وغير ذلك.
الثالث- وهو مذهب الكسائي وأبي عبيد-: أنه منصوب على خبر كَانَ المضمرة، تقديرُه: يكنِ الإيمانُ خيرًا، وقد ردَّ بعضُهم هذا المذهب؛ بأنَّ كَانَ لا تُحْذَف مع اسمها دون خبرها، إلا فيما لابد له منه، ويزيد ذلك ضعفًا أنَّ يَكُن المقدرة جوابُ شرطٍ محذوف، فيصيرُ المحذوفَ الشرطُ وجوابُه، وهو يَكُن الإيمَانُ وأبقيتَ معمولَ الجواب، وهو خَيْرًا، وقد يقال: إنه لا يحتاج إلى إضمار شرطٍ صناعيٍّ، وإن كان المعنى عليه؛ لأنَّا ندَّعِي أن الجزْم الذي في يَكُنِ المقدرةِ، إنما هو بنفس جملة الأمر التي قبله، وهو قوله: فآمِنُوا من غير تقدير حرفِ شرطِ، ولا فعلٍ له، وهو الصحيحُ في الأجوبة الواقعة لأحد الأشياء السبعة، تقول: قُمْ أكْرِمْكَ، فأكْرِمْكَ جواب مجزومٌ بنفس قُمْ؛ لتضمُّن هذا الطلب معنى الشرط من غير تقدير شرط صناعيٍّ.
الرابع- والظاهرُ فساده-: أنه منصوبٌ على الحال، نقله مكي عن بعض الكوفيِّين، قال: وهُوَ بعيدٌ، ونقله أبو البقاء أيضًا، ولم يَعْزُه. اهـ.